• القسم
    مقالات توعية وإرشاد
  • عنوان المقال
    ذنوب الخلوات
  • كتابة
    أسامة البركاني
  • مراجعة
    علي الأزرق

ذنوب الخلوات

Course Image

بسم الله والحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن وآلاه أما بعد:


أغلق باب غرفته الخاصة مسرعا لِئلا يره أحدًا من الخلق، وأسدل استارها، وأطفى أنوارها كي يتسنى له الانفراد في معزل عن أهل بيته، ثم طفق مهرعًا إلى جهازه المحمول وبدأ يتقلب يمنة ويسرة في مواقع العار والزنى والفجر والخنى -تلكم المواقع التي لطالما أفسدت وأعطبت إلتزام بعضًا من الشباب الملتزم، ولطالما بقيت نقطة سوداء معتمة في طيات حياة بعضهم-

ولكن أُخي!
انتظر هنيهةً..

وقبل أن تسترسل في ما أنت فيه وتُسهب..

ما هذه الحال التي أنت عليها؟
أأوقعك في شِراكه؟
أأسرك بأحبال مكائده؟
وأطبق عليك حجته؟
أم أنه ظفر بإلقائك في مستنقع خطواته؟

أخبرني أُخي ما هذه الحال التي أنت عليها؟
أيسرك شماتة الشيطان بك؟ أيسرك حالة الخزي والذل التي أدخلك فيها؟ أيسرك إسعاد من نصب الله -عز وجل- العداء عليه لأجلك؟ وطرده صاغرًا ذليلًا يجر ذيول العار من جنة عرضها السماوات والأرض ذلك أنه لم يسجد لك حيث أمره -جل في علاه-!؟

فآهٍ ثم آه ثم آآه..

كأني بك وقد ارتعدت فرائصك، ووجل قلبك، واسودت الدنيا في عينيك، وضاقت نفسك، وكساك الرعب إذ بك سمعت اضطرابًا وضجيجًا عند عتبة باب غرفتك..

ماذا سيكون حالك إذا راءك ذلك الرجل الصالح الذي في حيكم؟ أم نبئني بحالك إذا راءك والداك وأنت تقارف ما أنت فيه؟

فكيف بالله عليك وإن عليك من الله عينًا ناظرة -لا تأخذها سنة ولا نوم- يراك ويسمعك ويعلم سرك ونجواك ؟

(يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ ٱلْقَوْلِ ۚ وَكَانَ ٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا)

أخ التوحيد؛ اتعلم حقًا ما المفزع في الأمر؛ المفزع هو أن هذه الخلوات ذاتها خافضة رافعة، معزةٌ مذلةٌ، سبب من أسباب الانتكاس والتدني والانحدار في غياهب الضياع والتخبطات، أو سبب لثبوت القدم على العهد والصراط.

ولذلك فقد أخرج ابن ماجه وصححه الألباني عَنْ ثَوْبَانَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: (لأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا) قَالَ ثَوْبَانُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا، جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لاَ نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لاَ نَعْلَمُ، قَالَ: (أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنَ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا).

ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها!

وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمةٍ والنَّفسُ داعية إلى العصيانِ فاستحيي من نظرِ الإله وقل لها إنَّ الذي خلق الظَّلام يراني.

إِذا ما خَلَوتَ الدَهرَ يَومًا فَلا تَقُل
خَلَوتُ وَلَكِن قُل عَلَيَّ رَقيبُ
وَلا تَحسَبَنَّ اللَهَ يُغفِلُ ما مَضى
وَلا أَنَّ ما يَخفى عَلَيهِ يَغيبُ

كم من خلوة رفعت صاحبها في مقامات الأيمان والخشية حتى ارتقت به إلى مراتب الأحسان، وانعكس ذلك على قسمات ملامحه الخارجية، فلا تكاد ترى امرئ خالطه من قريبٍ أو بعيدٍ إلا وهو يُجله ويثني عليه خيرًا.

وكم من خلوة أوهنت صاحبها واهوت به  في دركات الضياع والانتكاس حتى أوصلته إلى حال التيه والحيرة، فلا تراه إلا مهمومًا هائمًا على وجهه يصارع أسوء واحلك كوبيسه؛ وإن كان الظاهر من خلوته أنها لذة ومتعة!
ولكن أيُ لذة وأي متعة تلك وهي ممزوجة بما ينغصها ويكدرها ويشوبها، فما إن تنتهي هذه اللذة والمتعة حتى تُولج صاحبها في دوامة الحسرات والآهات والندامة على ما قارفه، فضلًا عن حالة الذل والشقاء واستصغار النفس واستحقارها.

فهيهات هيهات..

تَفنى اللَذاذَةُ مِمَّن نالَ صَفوَتَها
مِنَ الحَرامِ وَيَبقى الإِثمُ وَالعارُ
تُبقي عَواقِبَ سوءٍ في مَغَبَّتِها
لا خَيرَ في لَذَةٍ مِن بَعدِها النارُ

يقول ربي جل في علاه في محكم التنزيل (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ۚ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)

فإن مابين الخلوتين بونٌ عظيم و فيصلٌ مبين، فهنيئًا لمن عَمَر خلوته بربه بطاعةٍ، بدمعةٍ، ودعوة صادقة يدخرها زادًا وملاذًا ليوم معادٍ لا ريب فيه.
ويا خسارة من انتهـك محارم الله عند خلوته، ولم يرعى الحِمى، فبأي وجه سيُقبل على ربه ذلك اليوم؟

يوم القيامة لو علمت بهولهِ
لفررت من أهلٍ ومن أوطانِ

يومٌ تشققت السماء لهولهِ
وتشيب فيه مفارق الولدانِ

يومٌ عبوس قمطرير شره
في الخلق منتشر عظيم الشان


فلا تسأل عن سر ثبات من ثبت على الطريق، وعن انتكاسة من انتكس، أو عن ضياع من ضاع!

فو الذي لا إلـه إلا هو -وإني مقسمٌ غير حانث- أن السر كل السر والخطب كل الخطب في الخلوات.
فمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى، وعَمَر خلوته بما يثبت جلوته، وأقام على نفسه الأمارة بالسوء الجهاد حتى أرغمها وعللها لئلا ترتع في حمى سيده و مولاه؛ فلن يضيعه الله -حاشاه سبحانه-.

 

فلا تسأل عن شاب غلب هواه ونفسه التي بين جنبيه كيف له أن يغلب فتن ومغريات عارضة، وقال مالك بن دينار: «من غلب شهوات الدنيا؛ فذلك الذي يفرق الشيطان من ظله»!

وأما ذلك الذي انتكس بعد ثبات، وحار بعد أن كار، وتقاعص وقعد بعد كرٍ وفر فقد كان وللأسف -أقولها والقلب يقطر دمًا- وليًا لله في علنه، مبارزًا له في خلوته وسره؛ فكان الجزاء من جنس العمل (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ)

ويقول عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري من حديث جندب بن عبدالله (مَنْ سمَّعَ، سمَّعَ اللهُ بهِ، ومَنْ راءَى، راءَى اللهُ بهِ، ومَنْ شاقَّ، شقَّ اللهُ عليه يومَ القيامةِ).

فكان لزامًا أن من رأى الناس بأعمال برٍ وخير واخفى ووارى عن أعينهم قبيح عصيانه ومبارزته الله عز وجل أن يريهم -سبحانه- منه ما هو على حقيقته بغير تصنع أو تكلف أو مراءه منه لهم ولا بد.

وأما ذلك الذي ضاع في أوحال ذنوب الخلوات -وذنوب الخلوات لاتقتصر على مشاهدة مواقع الخزي والعار، بل إن كل ذنب كُره أن يُطلع عليه من قبل الخلق فواراه العبد عن أعينهم ولم يتورع أن يقارفه في خلوته والله مطلع على باطنه وظاهره وسره وعلانيته فهو ذنب من ذنوب الخلوات- فهو مسكين يتخبط في ظلمة أحلك من ظلمة الليل البهيم إلا أن تداركه رحمةٌ من ربه -أسال الله أن يعافي من كان هذا حاله-.


إن للذنوب والمعاصى تأثيرًا ووطئة على القلوب وأشد ما يكون هذا التأثير وهذه الوطئة على القلوب في الخلوات، والعكس بالعكس فإن أعظم مثبتات القلوب على طريق الحق وطريق الإلتزام الحق هي عبادات الخلوات، واعلم بارك الله فيك أننا في الخلوات على حالين:

منا من أنكر على نفسه وترفع بها عن التدنس في أوحال ذنوب الخلوات فكان ذلك بمثابة لقاحٍ واقٍ له من هذه الذنوب المهلكات فلا يزال في معزل عنها ما شاء الله له.

ولسان حاله يقول ويردد

رباهـ عفوك إني للنور مُدّت يدايا.
أبكي وأبكي ويبكي دمعي ويبكي بكايا. وحفنة من وعاء غَرْفَةٌ من دمايا.
ولا لغيرك دوّى يا ربي يوماً ندايا.


ومنا من وقع فيها لخبيئة في نفسه لا يعلمها أحد إلا الله، فما ضعف من ضعف أمام ذنوب الخلوات إلا وقد عرض نفسه على فتن و معاصي، فنالت منه ما نالت فأضعفته وأسقطته من حيث لا يشعر.

فوا حسرتاه على أيام مضت وأزمان ولت وانصرمت شاهدة علينا، حاملة في طياتها عيوبنا، سقطاتنا، وهفواتنا التي نستحيي أن نلقى بشرًا بها -والله المستعان-.

قال الحسن البصري رحمه الله في الأثر المشهور: (ما من يوم ينشق فجره، إلا وينادى: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة).

وذلك مصداق لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه حذيفة بن اليمان في صحيح الجامع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (تُعرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ عَرْضَ الحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ سَوداءُ، وأيُّ قلبٍ أنْكَرَها نُكِتَتْ فيه نُكتةٌ بيضاءُ، حتى يصِيرَ القلبُ أبيضَ مثلَ الصَّفا، لا تَضُرُّه فِتنةٌ ما دامَتِ السمواتُ والأرضُ، والآخَرُ أسودَ مُربَدًّا كالكُوزِ مُجَخِّيًا، لا يَعرِفُ مَعروفًا، ولا يُنكِرُ مُنكَرًا، إلا ما أُشْرِبَ من هَواه).


ختامًا:

اُخي! هناك صلاة أرشدنا إليها رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم؛ صلاة تسمى صلاة التوبة أو صلاة الاستغفار، وإن صح التعبير فإني اسميها ترياق ذنوب الخلوات، فمن وقع في ذنبٍ من ذنوب الخلوات، وشعر بِحر الذنب وحرقته في قلبه واشتد عليه ما أسلفه، فعليه بهذه الصلاة، بهذا الإرشاد النبوي العظيم:

روى ابن ماجه والترمذي من حديث أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل يذنب ذنبًا، ثم يقوم فيتطهر، فيحسن الطهور، ثم يستغفر الله عزَّ وجلّ *إلا غفر له* »، ثم تلا: { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ].