• القسم
    مقالات توعية وإرشاد
  • عنوان المقال
    الخلاف علمٌ أم بابٌ للطعن؟
  • كتابة
    أميرة العزي
  • مراجعة
    علي الأزرق

الخلاف علمٌ أم بابٌ للطعن؟

Course Image

بسم الله الرحمن الرحيم.

في زمنٍ تداعت الأمم على أمة الإسلام كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، كان لعلوم الشريعة الحظ من التداعي عليها والطعن فيها حتى لا تجد علمًا من علومها إلا وقد أُخذ بالطعن والتشكيك فيه، وما ذلك إلا سبيل إلى نقض عُرى الإسلام، حتى أصبحنا بحاجة إلى بابٍ في كل علم يُعرض من خلاله الأدلة التي تُثبت صحة هذا العلم وحجيته وحاجتنا إليه، وكما أن العلماء قديمًا وحديثًا أخذوا بالتأليف في حجية بعض العلوم والأبواب - إثبات حجية السنة، إثبات حجية الإجماع، إثبات حجية القياس على سبيل المثال- فإن الحاجة اليوم تدعو للتأليف في باقي العلوم الشرعية والسير في هذا الطريق؛ ذبًا ودفاعًا وتأصيلًا؛ لما يواجهه المرء المسلم -وأخص بذلك طلاب العلوم الشرعية- من أفكار ومقالات لا يكفي أمامها التحصيل دون التحصين، وقد وقفت على مقالات كثيرة غايتها هدم الأصول وزعزة الثوابت، ولعل منها: ما اتخذ فيها "علم الخلاف" سُلَّمًا لتحقيق تلك الغاية، والناس في ذلك قسمان: الأول: يتخذ من المسائل الخلافية حجة لتعطيل الشريعة والطعن فيها بالكلية، والآخر: يتخذ من الخلاف حجة لتعطيل العمل بالمسألة المختلف فيها.

ولمّا أخذت مادة "الفقه المقارن" الذي يدور موضوعه حول مسائل الخلاف نويت جمع مادة أتناول فيها هذا العلم بهدف التحصين في المقام الأول، وكانت النية أن تكون مادة خاصة لا ينشر شيء منها إلى أن يشاء الله، ثم دعت الحاجة إلى نشر بعض ما جاء فيها، وهو محور عنونته بـ"لماذا لا يمكن أن يكون الخلاف طعنًا؟"، وقد خَلُصت إلى خمسة أسباب، ثلاثة منها إلى ذات العلم، واثنان خارجة عنه، والحديث فيه عما هو من قبيل الخلاف السائغ لا غيره، فأقول -والله المستعان-:

لا يمكن للخلاف أن يكون بابًا للطعن في الشريعة وذلك راجع لأسباب منها:

السبب الأول: الخلاف سنة من سنن الله.

إن المتأمل في هذا الكون يجد سُنيّة الاختلاف ظاهرة وواضحة في أعظم المخلوقات وأحقرها، أكبرها وأصغرها، يجدها في الشكل والحجم والطبيعة الحياتية والأفهام والعقول والألسن... في كل ما خلقه الله في الكون.
وإن الجامع بين التفكر الكوني والتدبر الشرعي يجد أن ذلك الاختلاف آية من آيات الله ودليل من أدلة وحدانيته فقد قال تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾¹ يقول السعدي في تفسير هذه الآية: "...فكل هذه أدلَّة عقليَّة نبَّه الله العقول إليها، وأمرها بالتفكُّر واستخراج العبرة منها... وهذا دالٌّ على كمال قدرتِهِ ونفوذِ مشيئتِهِ وعنايته بعبادِهِ ورحمتِهِ بهم، أنْ قدَّرَ ذلك الاختلاف؛ لئلاَّ يقع التشابه، فيحصل الاضطراب، ويفوت كثير من المقاصد والمطالب."²، إذن: الاختلاف سنة في الكون لا مناص منها، فكما أن اختلاف الليل والنّهار آية من آيات الله = فإن اختلاف الأفهام والاجتهادات آية من آياته أيضا، فكيف يمكن أن تكون السُّنُّة طعنًا وكل اختلاف منهما له ضوابطه وقواعده؟!

السبب الثاني: الخلاف مستصاغ عقلًا.

إذ أنه لا يوجد مانع عقلي يمنع وجود الخلاف في مسألة معينة، ومع أن الطاعنين في الشريعة من هذا الباب أكثر الناس ادعاء للعقلانية إلا أنهم أكثر الناس تناقضًا، فلو أنك قلت لأحدهم: لسنا بحاجة لتطبيق القوانين الوضعية لاختلافها من بلد لآخر، لرأيته أكثر الناس تهجمًا عليك، ويستبين لك أكثر إن لامست مفاهيمهم من حرية ومساواة وغيرها، مع أنك لم تأتِ بشيء إلا بما أتوا به، ولم تدخل عليهم إلا من بابهم، فلو أن اختلاف القوانين بين البلدان داعيًا عقليًّا لإبطال القوانين من حيث هي لما قام للناس أمر، ولا صلح لهم معاش، وكما أن اختلاف الناس فيها لا يبطلها = فالشريعة من باب أولى!

السبب الثالث والرابع: تقرير الشريعة لمشروعية الخلاف، وقبول النصوص الشرعية للاجتهاد.

إن من السفه أن يأتي أحدهم ويطعن فيما يقره الآخر عن نفسه ويراه ميزة فيه، إذ أنه لا يستقيم الطعن إلا بمعيب يُستر لا مفخرة تُظهر، وإن حصل وكان الطعن بما أقرّه المرء عن نفسه لا يكون حينها للطعن قوة ولا تأثيرًا، وكذا حينما تأتي الشريعة وتُبيّن أن نصوصها واسعة الدلالة، وأن ساحة الاجتهاد فيها كبيرة، ثم تنظر لاجتهاد المجتهدين وتقرهم عليه، على ما فيه من خلاف، فإن من الحمق أن يأتي أحدهم ويقول هناك خلاف، ولمَ هناك خلاف؟ وكأنّ أهل الشريعة ينكرون ذلك عن شريعتهم!
ومصداقًا لذلك ما كان من الصحابة حين قال النَّبيِّ ﷺ يَومَ الأحْزَابِ: "لا يُصَلِّيَنَّ أحَدٌ العَصْرَ إلَّا في بَنِي قُرَيْظَةَ." فأدْرَكَ بَعْضُهُمُ العَصْرَ في الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لا نُصَلِّي حتَّى نَأْتِيَهَا، وقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ يُرِدْ مِنَّا ذلكَ، فَذُكِرَ ذلكَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فَلَمْ يُعَنِّفْ واحِدًا منهمْ.³، فهذا الحديث دليل على إقرار الشريعة باختلاف المجتهدين، ودليل على أن دلالة ألفاظها واسعة، ودليل على إقرار الشريعة باجتهاد المجتهدين، والنظائر لهذا الحديث كثيرة، ثم إنك تجدها محفوظة في سطور الكتب وصدور الرجال، ولا تجد عالمًا يخفيها ولا مؤمنًا ينكرها!

السبب الأخير: منهجية الخلاف وبُعده عن العبثية.

إن الناظر لعلم الخلاف، يرى أن العلماء يسيرون بمنهجية أصولية محددة، بعيدة عن الهوى والعبثية، فتجد أن لكل عالم دليله في المسألة وأصوله الشرعية التي يبني عليها قوله، ولن تجد قولًا ليس لقائله سبب، وقد أُلفت الكتب في أسباب الخلاف ودواعيه وآدابه منذ ظهور العلم؛ إلا أن الطاعنين في الشريعة أبعد الناس قراءة فيها!

الخلاصة:
الخلاف باب من أبواب الفقه، ولا يمكن أن يطعن في الشريعة من خلاله إذ أن فيه كل مقومات العلم من منهجية ومنطق، والآخذ للخلاف حجة للطعن في الشريعة لا يخرج عن كونه جاهل بحقيقته أو متبع لهواه!

___
هامش:

[1] الروم، 22.
[2] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان، للعلامة الشيخ عبد الرحمن ناصر السعدي، طبعة دار السلام (الطبعة الثانية ١٤٢٢هـ- ٢٠٠٢م)، صـ750
[3] صحيح البخاري.